للفصائل الفلسطينية ولإخواني في حركة حماس
نشر بتاريخ: 2025/12/08 (آخر تحديث: 2025/12/08 الساعة: 23:36)

لم أكن يومًا ممّن يفاخرون بقول: وما أنا إلا من غزية…، بل كنتُ دائمًا حريصًا على بذل النصح، وإن لَمَزَ البعض—بطرفٍ خفي—أنني أغرّد خارج السرب. ذكّرتُ كثيرًا بتجارب الأمم التي سبقتنا، وبأنّ الرائد لا يكذب أهله، وكنتُ على عهدي في التحذير والتنبيه، غير أنّهم لم يستبينوا النصح إلا في ضحى الغد، أي بعد أن يقع ما يحذر منه العقلاء.

ومع كل ذلك، أعود لأرفع الصوت مجددًا؛ فالمشهد الراهن، بما فيه من مكرٍ وتآمر وتواطؤ إسرائيلي أمريكي يستوجب منا القيام بمراجعات شجاعة وتغيير في النهج، لأن الاستمرار في المسار ذاته لا يقود إلا إلى مزيد من الخسارات. وما نراه اليوم من محن وضيق خيارات أمام شعبٍ يعيش أكبر مأساة إنسانية في العصر الحديث، يحمّلنا واجب قول الكلمة الصادقة، وتقديم النصيحة التي لا يُراد بها تسجيل مواقف، بل أداء شهادة أمام الله والتاريخ.

لقد عشتُ سنواتٍ طويلة في عالم السياسة والفكر؛ خبرتُ الرجال والمواقف، ورأيت كيف تُهدر الشعوب فرصها حين تستبدّ بها الأوهام وحين يصرّ القادة على إعادة إنتاج الأخطاء ذاتها. ولهذا، حين أقول: «بذلت لهم نصحي»، فإنني أتحدث بمرارة المجرّب، لا بعين الملامة.

كنتُ دائمًا أؤكد أن الانقسام الفلسطيني ليس خلافًا سياسيًا، بل جرحًا عميقًا يقسم الجسد ويمنع عنه القدرة على النهوض.. وقلنا مرارًا: إن النصر لا تتقاسمه رايتان، وإن سفينة الوطن لا تُساق بدفّتين متعارضتين. لكن الصوت ظلّ يضيع في ضجيج الحسابات الضيقة، حتى جاءت كارثة الابادة والتطهير العرقي، وسقطت غزة—بأهلها وبيوتها—تحت هذا العدوان الهمجي، لتكشف أن ما تبقى لنا من قوة هو وحدتنا، وأن ما فقدناه كان نتيجة غيابها.

لقد بذلتُ نصحي لفصائل المقاومة كما بذلته لأهل السياسة؛ قلتُ للمقاومة إن الفعل العسكري—برغم أهميته في مواجهة الاحتلال—لا يمكن أن يكون بديلًا عن البوصلة السياسية. وإن بطولة الميدان، إذا لم تُحسَب بدقة، قد تترك كلفةً لا تستطيع السياسة إغلاق ملفّها. وقلت للسياسيين إن الخطابات وموائد المصالحة لا تصنع دولة، وإن الانفصال عن نبض الشارع وقواعده الشعبية هو خطأ يسبق عادةً أخطاء أكبر.

كنت أعرف أن كلامي قد يغضب البعض، لكن الساكت عن الحقيقة ليس محايدًا، بل شريك في الخطأ، ولو بصمته.

واليوم، في زمن النزوح والألم والضرب بكفيّ الندم، وفيما نحن نكتب على بصيص ضوء باهت، ونسمع بكاء الأطفال وعويلهم أكثر مما نسمع تمحكات السياسين وجدالهم، نُدرك أن غزة لم تعد تحتمل ترف الخلاف ورفاهية "طق الحنك". فكل نقدٍ كان يُعدّ بالأمس "وجهة نظر" أصبح الآن ضرورة بقاء، وكل نصيحةٍ كانت تُؤخذ على أنها اجتهاد شخصي باتت اليوم خطة حياة.

نعم؛ بذلتُ لهم نصحي… وما زلت. لم أندم على كلمة قلتها، ولا على موقف اتخذته، لأنني آمنت دائمًا بأن واجب المصلح أن ينطق ولو كان صوته وحيدًا. ولذلك، سأظل أقول لكل فصيل وقيادة وصاحب قرار: إن الوطن أكبر من أحزابنا، وإن الدم الفلسطيني أثمن من المكاسب السياسية، وإن مستقبل فلسطين لن يُكتب إلا بعقل شجاع يدرك أن زمن المغامرة انتهى، وأن زمن البناء—بالحكمة والشراكة ووحدة القرار—قد بدأ.

وحين تكتب الأجيال القادمة تاريخ هذه اللحظة، لن يعنيها من ربح أو خسر سياسيًا، بل ستسأل سؤالًا واحدًا:

«من كان وفيًّا لفلسطين… ومن كان وفيًّا لنفسه؟»

ولهذا، أقول اليوم كما قلت أمس: بذلت لهم نصحي… وسأظل أبذله ما حييت.