بين التهويل والواقع: هل تتسع الهوة فعلاً بين إسرائيل والولايات المتحدة؟
نشر بتاريخ: 2025/12/15 (آخر تحديث: 2025/12/15 الساعة: 21:22)

في الأيام الأخيرة، طغت على المشهد التحليلي موجة واسعة من المقالات والتقديرات التي تتحدث عن “أزمة غير مسبوقة” بين إسرائيل وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعن مواجهة وشيكة مع بنيامين نتنياهو حول المرحلة الثانية من خطة غزة. هذه التحليلات، على اختلاف نبرتها، تشترك في فرضية واحدة: أن واشنطن باتت على وشك فرض وقائع على إسرائيل، وأن نتنياهو يقف أمام لحظة حاسمة بين الإذعان أو العزلة.

غير أن هذا الخطاب، عند إخضاعه للفحص الهادئ، يبدو أقرب إلى التهويل السياسي والإعلامي الإسرائيلي منه إلى توصيف واقعي لموازين القوى أو لطبيعة العلاقة الأميركية–الإسرائيلية، التي أثبتت تاريخياً قدرتها على امتصاص الخلافات وتحويلها إلى أدوات إدارة، لا إلى قطيعة أو صدام استراتيجي.

المفارقة الأولى تكمن في التناقض الصارخ داخل هذه التحليلات نفسها. فالمعلّقون الذين يحذّرون من “غضب ترامب” و”نفاد صبر واشنطن”، هم أنفسهم الذين يعترفون بأن الإدارة الأميركية لم تُشكّل حتى الآن قوة دولية فعّالة، ولم تؤمّن تمويلاً واضحاً لإعادة الإعمار، كما لم تبلور آلية عملية لنزع سلاح حماس أو لضمان ملامح “اليوم التالي” في غزة.

فإذا كانت واشنطن عاجزة عن إنتاج أدوات تنفيذية ملموسة، فكيف يمكنها فرض إملاءات حاسمة على إسرائيل؟

وإذا كانت الخطة الأميركية نفسها متعثرة، فأين تكمن تلك “الهوة العميقة” التي يُقال إنها تتسع؟

في السياق نفسه، يُقدَّم اغتيال رائد سعد كدليل على تحدّي إسرائيل لإرادة ترامب، لكن هذا التوصيف يتجاهل حقيقة أساسية: إسرائيل لم تتوقف يوماً عن اختبار حدود الصبر الأميركي، لا في غزة ولا في لبنان ولا في الضفة الغربية. فالاغتيال لا يمثّل انقلاباً على العلاقة، بل رسالة تكتيكية محسوبة: إلى واشنطن مفادها أن إسرائيل ما زالت تحتفظ بهامش عمل عسكري وأمني، وإلى الداخل الإسرائيلي بأن القيادة لم تتخلَّ عن أدوات القوة. وردّ الفعل الأميركي حتى الآن يؤكد هذا الفهم، إذ لم يتجاوز حدود التحفّظ اللفظي، بما يعكس استمرار قاعدة “الخلاف المُدار” لا الصدام المفتوح.

إن الحديث عن “شرخ استراتيجي” يتجاهل البنية العميقة للعلاقة بين الطرفين. فالولايات المتحدة لا تنظر إلى إسرائيل كطرف يمكن الاستغناء عنه أو الضغط عليه حتى الانكسار، بل كركيزة أساسية في منظومة نفوذها الإقليمي. وفي المقابل، تدرك إسرائيل أن واشنطن ليست وسيطاً محايداً، بل شريكاً منحازاً يختلف معها أحياناً على الأسلوب، لا على الجوهر.

الخلاف القائم اليوم يتمحور حول إدارة المرحلة لا حول الهدف النهائي. واشنطن تريد تقدّماً سياسياً قابلاً للتسويق دولياً، بينما تريد إسرائيل الإبقاء على اليد العليا أمنياً. هذه ليست معادلة صفرية، بل مساحة تفاوض دائمة، تُدار فيها التباينات بدل أن تُحسم.

ويصوّر بعض المحللين الإسرائيليين زيارة نتنياهو المرتقبة إلى واشنطن وكأنها لحظة إذعان تاريخية، في حين يشير الواقع إلى أنها أقرب إلى جلسة لسد الفجوات بين خطاب أميركي طموح وواقع ميداني معقّد. فترامب لا يملك حتى الآن إجابات عملية عن الأسئلة التي سيطرحها نتنياهو: من يسيطر؟ من يدفع؟ من يفرض نزع السلاح؟ ومن يضمن عدم عودة الفوضى؟ وفي ظل هذا الفراغ، تتحول القدرة على الضغط إلى قدرة على الإقناع، وهي مساحة يجيد نتنياهو المناورة داخلها، خصوصًا إذا استند إلى تعثّر الخطة الأميركية نفسها.

أما الانتقال إلى المرحلة الثانية، فيُقدَّم بوصفه اختراقاً سياسياً، لكنه في الواقع قد يكون إعادة إنتاج للأزمة بصيغة مختلفة. فهي مرحلة قائمة على توازنات هشة، وتفاهمات غير مكتملة، وقوى دولية لم يُحسم بعد شكل مشاركتها أو قدرتها على التأثير. ومن هنا، لا يبدو أن الخلاف الأميركي–الإسرائيلي بلغ حدّ المواجهة، بل هو خلاف على سرعة الخطوات وتسلسلها، تُضخَّم حدّته إعلاميًا – لا سيما من قبل محللي المعارضة الإسرائيلية – أكثر مما تتجسّد فعلياً على الأرض.

غير أن أخطر ما في هذا الجدل التحليلي، وفي التهويل المتبادل حول “الهوة” بين واشنطن وتل أبيب، هو أنه يجري بينما تدفع غزة الثمن الكامل. فبينما تُدار الخلافات الأميركية–الإسرائيلية بوصفها تبايناً في الأسلوب أو التوقيت، تُمنح إسرائيل عملياً حرية واسعة لمواصلة العمل العسكري، وتأجيل الانسحاب، وتعطيل إعادة الإعمار، تحت غطاء خطط أميركية–إسرائيلية مشتركة لا تهدف إلى وقف الجريمة، بل إلى تنظيمها وإطالة أمدها.

الحديث عن الضغط الأميركي يصبح، في هذا السياق، خداعاً سياسياً. فالولايات المتحدة لا تضغط لوقف القتل، بل تفاوض على شكله وسقفه وتوقيته. وهي لا تختلف مع إسرائيل على جوهر ما يجري في غزة، بل على كيفية تسويقه دولياً، وكيفية إدارة كلفته السياسية، ومن يتحمل عبء “اليوم التالي” دون المساس بحرية العمل العسكري الإسرائيلي.

بهذا المعنى، فإن “الخلاف المُدار” ليس خللاً في العلاقة، بل جزء من وظيفتها. إنه الآلية التي تسمح باستمرار الإبادة دون كسر التحالف، وباستمرار الدعم دون تحمّل المسؤولية المباشرة. تُلوّح واشنطن بالضغط، وتُظهر إسرائيل التمنّع، بينما تُترك غزة لتدفع الثمن وحدها: قتلاً، وتجويعاً، ودماراً، وتأجيلاً مفتوحاً لأي أفق سياسي أو إنساني.

في المحصلة، لا تبدو الهوة بين إسرائيل والولايات المتحدة بالاتساع الذي يُصوَّر. فهي هوة خطابية أكثر منها سياسية، تُستخدم في الإعلام للضغط، وفي السياسة للمساومة، وفي التحليل لملء فراغ غياب المعطيات الصلبة. أما العلاقة نفسها، فما زالت محكومة بقاعدة ثابتة: إسرائيل ثابتٌ من ثوابت السياسة الأميركية، والخلافات قابلة للإدارة، بينما المصالح غير قابلة للكسر. وبين التهويل والتبسيط، يضيع السؤال الأهم: ليس ما إذا كانت واشنطن ستضغط على إسرائيل، بل كيف سيُدار هذا الضغط دون أن يغيّر جوهر المعادلة القائمة، ودون أن يتوقف نزيف غزة.