لقاء ترمب–نتنياهو: حين يتحوّل «اتفاق غزة» من أفق لإنهاء الحرب إلى أداة لإدامتها
نشر بتاريخ: 2025/12/30 (آخر تحديث: 2025/12/30 الساعة: 21:10)

ليس اللقاء المرتقب بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تفصيلًا عابرًا في روزنامة السياسة الدولية، ولا حدثًا يمكن اختزاله في لغة المجاملات الدبلوماسية أو البيانات المشتركة. إنه لقاء يُعقد فوق ركام مدينة مدمّرة، وأمام شعب يعيش على حافة المجاعة والاقتلاع، وفي لحظة مفصلية بات فيها «اتفاق غزة» مهددًا بأن يتحوّل من فرصة نادرة لوقف الحرب، إلى غطاء سياسي لإعادة إنتاجها بصيغ أقل صخبًا وأكثر خبثًا.

منذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، لم تتصرّف إسرائيل باعتبار الاتفاق التزامًا سياسيًا وأخلاقيًا، بل تعاملت معه كـفترة استراحة عملياتية، أعادت خلالها ترتيب أوراقها الميدانية، ووسّعت مناطق سيطرتها، وراكمت ذرائع جديدة لتعطيل الانتقال إلى المرحلة الثانية، التي تمثل جوهر الاتفاق وروحه السياسية.

الاتفاق الذي لا تريد له إسرائيل أن يكتمل

المشكلة الأساسية لا تكمن في تفاصيل تقنية أو خلافات إجرائية، بل في حقيقة أعمق: إسرائيل لا تريد نهاية للحرب بالشروط التي نصّ عليها الاتفاق. فالمرحلة الثانية، بما تحمله من انسحاب عسكري، وتسليم إدارة القطاع لسلطة بديلة، ونشر قوة استقرار دولية، تعني عمليًا نهاية قدرة تل أبيب على فرض الوقائع بالقوة، وتحجيم هامشها في التحكم بمستقبل غزة سياسيًا وأمنيًا.

لذلك، رفعت إسرائيل سقف الشروط إلى حدّ تفريغ الاتفاق من مضمونه، عبر ربط كل خطوة أساسية بمطالب شبه مستحيلة التحقيق في السياق الراهن، مثل نزع سلاح «حماس» بالكامل قبل الانسحاب، أو استعادة الرفات الأخير كشرط سياسي، لا إنساني. وهي شروط لا تهدف إلى الحل، بقدر ما تهدف إلى كسب الوقت وإعادة تعريف الاتفاق وفق الرؤية الإسرائيلية وحدها.

ترمب: سلام بلا عدالة

في المقابل، يقدّم دونالد ترمب نفسه كعرّاب الاتفاق، ويحرص على إدراجه ضمن سجل «إنجازاته الكبرى». غير أن قراءة متأنية لمقاربته تكشف أن ما يسعى إليه ليس سلامًا عادلًا، بل استقرارًا هشًّا قابلًا للتسويق السياسي. ترمب لا يمانع في بقاء جذور الصراع دون معالجة، طالما أن صور الحرب لا تعود إلى الشاشات، وطالما أن الهدوء النسبي يسمح له بتقديم نفسه كرئيس أنهى حربًا دون أن يخوضها.

هذه المقاربة البراغماتية، التي تفصل بين الهدوء والعدالة، تشكّل الخطر الأكبر على «اتفاق غزة». فهي تمنح إسرائيل مساحة واسعة للمناورة، وتحوّل الضغط الأميركي من أداة إلزام إلى وسيلة احتواء، تسمح لإسرائيل بالالتفاف على الاستحقاقات الجوهرية، مقابل التزام شكلي بعدم تفجير الاتفاق كليًا.

نتنياهو ومسرح «القبول اللفظي»

يعرف نتنياهو جيدًا أن إدارة ترمب لا ترغب في صدام علني معه، كما يدرك أن واشنطن تخشى انهيار الاتفاق أكثر مما تخشى تفريغه من مضمونه. لذلك، يتقن لعبة القبول اللفظي والرفض العملي: يعلن التزامه بالاتفاق، لكنه يعطّل تنفيذه؛ يتحدث عن المرحلة الثانية، لكنه يشترطها بما يناقض جوهرها؛ يوافق على التهدئة، لكنه يرفض الانسحاب.

هذه الاستراتيجية لا تنبع فقط من حسابات أمنية، بل من مأزق سياسي داخلي. فنتنياهو يعلم أن أي انسحاب كامل من غزة دون «صورة نصر» سيُستخدم ضده داخليًا، وسيُقرأ كفشل استراتيجي بعد حرب مدمّرة لم تحقق أهدافها المعلنة. لذلك، يسعى إلى إعادة تعريف النصر: ليس بالقضاء على «حماس»، بل بفرض واقع جديد في غزة، مجزّأ، منهك، قابل للإدارة الإسرائيلية طويلة الأمد.

المرحلة الثانية: ساحة الصراع الحقيقية

كل ما سبق يفسّر لماذا تحوّلت المرحلة الثانية من الاتفاق إلى ساحة الصراع الأساسية. فهذه المرحلة ليست تفصيلًا تقنيًا، بل الاختبار الحقيقي لنية الأطراف. إما أن تُنفذ بما تعنيه من انسحاب وإعادة ترتيب سياسي، أو تُفرغ من مضمونها وتُستبدل بترتيبات انتقالية طويلة، تُبقي الاحتلال حاضرًا بأشكال مختلفة.

الخطير في هذا السياق هو الحديث المتزايد عن إعمار «جزئي» في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، ما يعني عمليًا مكافأة الاحتلال على احتلاله، وتحويل الإعمار إلى أداة سياسية وأمنية، لا حقًا إنسانيًا شاملًا لكل القطاع.

مصر: معركة منع الانحراف

وسط هذا المشهد الملبّد، تبدو مصر اللاعب الأكثر إدراكًا لمخاطر الانحراف عن جوهر الاتفاق. فالقاهرة لا تنظر إلى غزة من زاوية سياسية فقط، بل من منظور أمن قومي مباشر. أي تفكيك للقطاع، أو فرض مناطق نفوذ دائمة، أو إطالة أمد الفوضى، سيضع مصر أمام تحديات أمنية وإنسانية لا يمكن احتواؤها.

من هنا، يأتي الرفض المصري القاطع لأي حديث عن خطوط حمراء أو خضراء داخل غزة، وأي سيناريو لتقسيم القطاع أو تحويله إلى كانتونات. وتأتي الضغوط المصرية في اتجاه تثبيت مبدأ الانسحاب الكامل، وربط أي حديث عن الإعمار أو الحكم الانتقالي بإنهاء السيطرة العسكرية الإسرائيلية.

غير أن الرهان المصري على الدور الأميركي يبقى محفوفًا بالمخاطر، طالما أن واشنطن لم تحسم خيارها بين فرض الاتفاق أو إدارته.

«حماس» بين الضغط والعزلة

أما «حماس»، فتقف في موقع بالغ الحساسية. فهي الطرف الأكثر استهدافًا سياسيًا وأمنيًا، لكنها في الوقت ذاته ليست الطرف القادر على فرض مسار الاتفاق. تراهن الحركة على أن الضغط الأميركي سيمنع إسرائيل من الانقلاب الكامل على الاتفاق، لكنها تدرك أن المرحلة المقبلة قد تُصاغ على حسابها، عبر ترتيبات تُقصيها سياسيًا دون إنهاء الاحتلال.

السيناريو الأخطر بالنسبة لها يتمثل في انتقال إلى مرحلة ثانية مشوّهة: إدارة انتقالية ضعيفة، قوات دولية بمهام غامضة، إعمار مشروط، وبقاء فعلي للسيطرة الإسرائيلية. وهو سيناريو لا يعني نهاية الحرب، بل تحويلها إلى صراع منخفض الوتيرة، طويل الأمد.

اختبار الإرادة الأميركية

في المحصلة، لا يمكن فصل مستقبل «اتفاق غزة» عن سؤال أكبر: هل تملك الولايات المتحدة الإرادة السياسية لفرض التزامات حقيقية على إسرائيل؟ أم أن علاقتها بتل أبيب ستظل محكومة بمنطق الحماية السياسية مهما كانت الكلفة الإنسانية والإقليمية؟

لقاء ترمب – نتنياهو يضع هذا السؤال في قلب المشهد. فإما أن يخرج اللقاء بإشارات واضحة وجدول زمني ملزم للمرحلة الثانية، أو يتحوّل إلى محطة جديدة في مسار تمييع الاتفاق.

الخلاصة: اتفاق بلا شجاعة

المفارقة المؤلمة أن «اتفاق غزة» لا يفتقر إلى النصوص، بل إلى الشجاعة السياسية لتنفيذه. النص موجود، والضمانات معلنة، والوسطاء حاضرون، لكن الإرادة غائبة. وما لم يتحوّل الضغط الأميركي من خطاب إلى فعل، فإن الاتفاق مهدد بأن يصبح وثيقة لإدارة الدمار، لا لإنهائه.

لقاء ترمب – نتنياهو لن يحدد فقط مصير مرحلة تفاوضية، بل سيكشف حدود النظام الدولي نفسه: هل لا يزال قادرًا على فرض حدّ أدنى من العدالة، أم أنه اكتفى بدور شرطي تهدئة، يضبط العنف دون أن يعالج أسبابه؟

في غزة، لم يعد السؤال متى تنتهي الحرب، بل كيف تُعاد صياغتها سياسيًا. وهذا هو الخطر الأكبر.