نشر بتاريخ: 2025/12/13 ( آخر تحديث: 2025/12/13 الساعة: 16:21 )
عدلي اليازوري

حين انتصرت رواية الدم.. وسقطت كل الروايات

نشر بتاريخ: 2025/12/13 (آخر تحديث: 2025/12/13 الساعة: 16:21)

الكوفية ما بعد السابع من أكتوبر، لم تعد القضية مجرد مواجهة عسكرية أو صراع جبهات، بل دخلنا مرحلة أكثر عمقاً وتعقيداً، مرحلة معركة الوعي والسرد والذاكرة. هنا لا تُقاس النتائج بعدد الصواريخ ولا بخرائط السيطرة، بل بقدرة كل طرف على إقناع العالم، وعلى تثبيت روايته في العقل الجمعي، وعلى الصمود أخلاقياً أمام الصورة والواقع.

في هذه المعركة تحديداً، انتصر الدم الفلسطيني، وخسرت جميع الأطراف، بكل مسمياتها. انكشف عجز القوة الصلبة عن إنتاج معنى، وسقط وهم أن التفوق العسكري قادر على فرض شرعية. الصورة القادمة من غزة، طفل تحت الركام، أم تصرخ وهي تبحث عن ابنها، مدينة تُمحى أمام الكاميرات، مشاهد الجوع والتشرد، كانت أقوى من أي خطاب سياسي أو عسكري. الدم هنا لم يكن مجرد ضحية، بل تحوّل إلى شهادة، وإلى حجة أخلاقية أربكت العالم وكسرت كثيراً من مسلمات الصمت والتواطؤ.

الرواية الإسرائيلية فشلت فشلاً ذريعاً أمام الواقع. كل ما رُوّج له لعقود عن أخلاقية الجيش والدفاع عن النفس تبخر أمام مشاهد القتل الجماعي والحصار والتجويع واستهداف المدنيين. لم تعد اللغة قادرة على تبييض الصورة، لأن الصورة نفسها فضحت اللغة. حين تُبث المجازر مباشرة، يصبح الخطاب الأمني مجرد تبرير فج، وتتحول الأكاذيب إلى عبء على أصحابها. إسرائيل خسرت معركة السرد لأن الواقع كان أقسى من قدرتها على التلاعب به.

لكن الهزيمة السردية لم تكن حكراً على الاحتلال وحده. خسر أيضاً ما يسمى بالمقاومة، وخسرت معه الرواية التي بُنيت على الوهم والتهويل والفبركة. سقطت لغة الانتصارات المتخيلة والمزعومة أمام حجم الخسارة الإنسانية الهائلة. تهاوت الشعارات حين واجهت أسماء الشهداء، وتبددت البلاغة وأكاذيب الخطابة أمام وجع الناس الحقيقي وآلامهم. رواية تعتمد على تضخيم الإنجازات، وعلى صناعة بطولات لفظية، وانتصارات وهمية، وعلى دجل وتنطع المرتزقة من محللين بعض الفضائيات، لا يمكن أن تصمد طويلاً أمام واقع يُبث بالصوت والصورة.

رواية حماس، حين اختزلت تاريخ شعب وثورته في مايسمى المقاومة، وتاريخها وفعلها المحدود، وحين استبدلت السياسة والفعل الثوري الحقيقي بالخطاب الديني الشعبوي التعبوي، وقعت في مأزق أخلاقي وسياسي. التهويل لا يصنع وعياً، والكذب لا يبني ذاكرة، والفبركة لا تصمد أمام أول اختبار حقيقي. في لحظة الامتحان الكبرى، لم تحمِ هذه الرواية المدنيين، ولم تصن الدم، ولم تقدم أفقاً وطنياً جامعاً، بل زادت من الفجوة بين الشعار والواقع، وبين الخطاب الكاذب وحياة الناس.

الأخطر من ذلك أن مايسمى بسلاح المقاومة، في حقيقته وفي محطات كثيرة، كان ولا يزال موجهاً إلى الخلف، إلى الداخل، لفرض السطوة والسيطرة، لا لمواجهة الاحتلال. استُخدم لإسكات المجتمع، وتجريم الاختلاف، وتحويل السياسة إلى طاعة. وحين يُرفع السلاح في وجه الناس، يسقط ادعاء المقاومة، ويتحوّل السلاح من أداة تحرر إلى أداة قمع، ومن رصيد معنوي إلى عبء ثقيل على القضية نفسها.

في هذا المشهد المعقّد، تبيّن أن المجتمع الأعزل هو من حمل العبء الأخلاقي كاملاً. المدنيون، الأطفال، النساء، المرضى، هم من واجهوا الموت، وهم من عرّوا الروايتين معاً، رواية الاحتلال ورواية الادعاء. الدم الفلسطيني سبق الجميع، وتقدّم على الشعارات، وكشف زيف القوة من جهة، وزيف الادعاء من جهة أخرى.

معركة الذاكرة هي الأخطر والأطول، لأنها معركة المستقبل. لذلك يُستهدف الشهود، وتُحاصر الصور، وتُمنع الكلمات، لأن الذاكرة حين تتجسد تتحول إلى ثورة وفعل مقاوم لا يُقهر. فالذاكرة ليست أرشيفاً محايداً، بل ساحة صراع حية، ومن يربحها يربح الأجيال القادمة.

ما بعد السابع من أكتوبر، كل كلمة موقف، وكل صورة سلاح، وكل صمت انحياز وكل تهويل وتهليل خيانة. في هذه اللحظة التاريخية، سقطت أسلحة الأجندات الفئوية والروايات المصطنعة، وبقيت رواية واحدة صامدة، رواية الدم الفلسطيني. رواية بلا تهويل ولا تهليل ولا فبركة، رواية لا تحتاج إلى محللين مرتزقة ولا إلى شاشات، لأنها الحقيقة نفسها، عارية، موجعة، ولا تُهزم