نشر بتاريخ: 2025/12/25 ( آخر تحديث: 2025/12/25 الساعة: 14:08 )
بقلم: شريف الهركلي

محمد بكري… رحلت جسدًا وبقيت روحك ترفرف في سماء الأدب الفلسطيني

نشر بتاريخ: 2025/12/25 (آخر تحديث: 2025/12/25 الساعة: 14:08)

الكوفية لم يكن رحيل محمد بكري خبرًا عابرًا في نشرة ثقافية، ولا سطرًا حزينًا على هامش الذاكرة، بل كان غيابًا ثقيلًا، كأن المسرح أُطفئت أنواره دفعة واحدة، وكأن الكاميرا فقدت عينها الأكثر صدقًا. رحل محمد بكري جسدًا، وبقيت فلسطين تتكئ على صوته، وبقي الوجع يتهجّى اسمه كأن الرحيل لم يكتمل.

لم يكن محمد بكري مجرد فنانٍ بارع، بل كان موقفًا يمشي على قدمين. لم يفصل يومًا بين الفن والضمير، ولا بين الكلمة والجرح الفلسطيني المفتوح. في زمنٍ اختار فيه كثيرون الصمت الآمن، اختار هو الصوت العالي؛ مكلفًا، محاصرًا، ومطاردًا، لكنه ظلّ صادقًا حتى آخر نبض.

من خشبة المسرح إلى شاشة السينما، ومن النص الكلاسيكي إلى المشهد السياسي العاري، حمل بكري قضيته كما يحمل الإنسان قلبه بين ضلوعه، دون مساومة أو حسابات. لم يُمثّل فلسطين، بل كانها؛ في غضبها، في انكسارها، وفي كرامتها التي ترفض الانحناء. كان صوته، حين يتكلم، أشبه ببيانٍ إنساني لا يحتاج إلى توقيع أو ختم.

اشتهر محمد بكري عالميًا، لكن الشهرة لم تكن يومًا بوصلته. دفع أثمانًا باهظة بسبب مواقفه، حوصر، وشيطن، واتُهم، لأنه قال ما يجب أن يُقال، ولأنه آمن بأن الفن إذا لم يكن حرًا، تحوّل إلى زينةٍ للزيف. وقف في وجه الرواية الرسمية، وفتح جراحًا حاول كثيرون طمسها، فكان شاهدًا لا متفرجًا، وحنظلةً تمشي على أرض الواقع لا على الجدران.

في حضوره، بدا المشهد الفلسطيني أكثر صدقًا وجرأة، وفي غيابه، يتّسع الفراغ وتزداد الأسئلة. لم يكن فنان سلطة، ولا ناطقًا باسم أحد، بل إنسانًا منحازًا للإنسان، يرى في العدالة قيمة لا تتجزأ، وفي الحرية حقًا لا يُقايَض ولا يُؤجَّل.

رحل صديقي محمد بكري، لكن روحه ما زالت ترفرف في سماء الفن والأدب، وصدى صوته ما زال يرنّ بين الجدران والشاشات والذاكرة. لم يرحل حقًا؛ بقي في الأدوار التي أداها بصدق، وفي الكلمات التي قالها دون خوف، وفي الوعي الجمعي لشعبٍ يعرف جيدًا من وقف معه، ومن دفع ثمن الحقيقة كاملة.

اليوم، نودّع فنانًا، وننحني لإنسان. نودّع جسدًا، لكننا نسلّم على إرثٍ لا يموت، يذكّرنا بأن الفن يمكن أن يكون مقاومة، وبأن الكلمة حين تُقال بصدق، تتحوّل إلى فعلٍ وتاريخ.

رحم الله محمد بكري،

الفنان الذي لم يترك لنا أعمالًا فنية فحسب،

بل رسالةً أخلاقية تتناقلها الأجيال الفلسطينية:

لم يُمثّل دور الحرية،

بل عاشها… حتى آخر مشهد في حياةٍ امتلأت حبًا وعطاءً وصدقًا.

صديقي محمد بكري