الإنكار كعقيدة بقاء.. قراءة تحليلية في تقرير حماس من منظور علم النفس السياسي
الإنكار كعقيدة بقاء.. قراءة تحليلية في تقرير حماس من منظور علم النفس السياسي
الكوفية في علم النفس ، يُعد الإنكار بعد الصدمة إحدى أكثر آليات الدفاع شيوعاً لدى الأفراد الذين يواجهون حدثاً يهدد وجودهم أو معنى حياتهم. يظهر ذلك بوضوح في بعض حالات الفقد لعزيز، أو بعد اكتشاف مرض خطير،مرضى السرطان كمثال. هذا الإنكار لا يكون دائماً كذباً واعياً، بل محاولة نفسية لمنع الانهيار، وحماية الذات من مواجهة حقيقة قاسية لا يملك الإنسان أدوات التعامل معها فوراً. غير أن الخطر يبدأ عندما يتحول الإنكار من مرحلة انتقالية إلى حالة دائمة تعيق العلاج، وتدفع صاحبها إلى مسار تدهور بطيء.
هذا النموذج النفسي الفردي، مع الفارق في السياق والحجم، يمكن إسقاطه على سلوك جماعات وقيادات سياسية بعد صدمات كبرى، حين يصبح الإنكار ليس مجرد رد فعل نفسي، بل أساساً لإدارة القرار والسياسة. من هذا المدخل، يمكن قراءة التقرير الذي أصدرته حركة حماس حول طوفان الأقصى لا بوصفه وثيقة سياسية دفاعية فقط، بل باعتباره تعبيراً مكثفاً عن حالة إنكار جماعي تحولت من استجابة للصدمة إلى عقيدة بقاء.
في أدبيات علم النفس السياسي، يُفهم الإنكار بوصفه آلية دفاع تلجأ إليها القيادات والجماعات عندما تصبح الحقيقة مهدِّدة للهوية والشرعية والاستمرارية. اللافت أن الإنكار نادراً ما يتجلى في نفي الوقائع المادية، بل يظهر غالباً في نفي العلاقة السببية بين القرار ونتائجه. أي الاعتراف بالكارثة مع إفراغها من المسؤولية السياسية والأخلاقية. هذا النمط حاضر بوضوح في تقرير حماس الأخير حول الطوفان. وفي تصريحات قيادة حماس على مدى شهور الحرب . الدمار في غزة موصوف، والإبادة مفصلة لغوياً، لكن القرار الذي فتح الباب لهذه الكارثة يُفصل تماماً عن نتائجها، وكأن الحرب حدث خارجي نزل على غزة بلا سياق أو فاعل فلسطيني.
ما تلا السابع من أكتوبر لم يكن صدمة عسكرية فحسب، بل صدمة معنى ووجود. الانهيار شبه الكامل لمنظومة الحياة في غزة بشكل عام وضع القيادة أمام احتمال فقدان السيطرة والشرعية معاً. في مثل هذه اللحظات، يصبح الاعتراف الكامل مكلفاً إلى حد لا يُحتمل، لأنه لا يعني فقط الإقرار بالخطأ، بل فتح أبواب المحاسبة، والسؤال عن القرار، والتوقيت، والكلفة الإنسانية التي دفعت من دم المجتمع وبنيته ومستقبله. هنا يبدأ الإنكار كاستجابة نفسية، لكنه سرعان ما يتصلب ويتحول إلى بنية فكرية مغلقة. تُستبدل لغة السياسة بلغة القدر، ويُعاد توصيف الحرب بوصفها حتمية تاريخية لا خياراً سياسياً قابلاً للنقاش، وبذلك لا يُبرر الماضي فقط، بل تُلغى إمكانية أي مستقبل بديل.
الأخطر من إنكار القيادة هو سعيها إلى تعميم هذا الإنكار بوصفه وعياً جمعياً مطلوباً. التقرير لا يخاطب الخارج وحده، بل يوجه رسالة ضمنية إلى الداخل الفلسطيني مفادها أن السؤال معيب، والنقد خيانة، والمساءلة خدمة للعدو. في علم النفس السياسي، يُعد هذا التحول علامة على انتقال الإنكار من حالة دفاعية إلى نظام ضبط اجتماعي. حين يُمنع المجتمع من طرح الأسئلة، يُحتجز الوعي في حالة حصار وتعبئة دائمة، ويُغلق أي أفق لمعالجة الصدمة جماعياً. بهذا لا تُدار الكارثة فقط، بل يُعاد إنتاجها بوصفها قدراً حتمياً مستمراً.
التاريخ السياسي يقدم أمثلة عديدة على هذا النمط. بعد هزيمة 1967، احتاجت الأنظمة العربية سنوات طويلة للاعتراف بحجم الهزيمة والانكسار، ما أدى إلى إعادة إنتاج خطاب شعارات عطل الإصلاح والمساءلة وأطال الكلفة السياسية والاجتماعية. أيضاً سلوك القيادة النازية في الحرب العالمية الثانية. حتى في السياق الإسرائيلي نفسه، شكلت صدمة حرب 1973 مثالاً كلاسيكياً على الإنكار الرسمي الأولي، القاسم المشترك في هذه التجارب أن الإنكار أطال المأساة، وأن الخروج منها لم يبدأ إلا حين فُتحت أبواب المساءلة.
في الحالة الراهنة، لم يعد الإنكار مجرد حالة نفسية، بل تحول إلى سياسة لإدارة الزمن الكارثي. استمرار الحرب، بكل ما تحمله من دمار وتجويع وانهيار اجتماعي، يبدو أقل خطراً على القيادة من وقفها، لأن الوقف يعني الانتقال إلى مرحلة الأسئلة الصعبة. من اتخذ القرار، هل كان التوقيت صائباً، وهل كان المجتمع قادراً على تحمل هذه الكلفة، وهل وُجدت بدائل لوقف الإبادة والتدمير. لذلك يصبح تجميد الواقع هدفاً بحد ذاته، وتتحول المأساة المفتوحة إلى مظلة تحمي القيادة من مواجهة الحقيقة.
المفارقة الأخلاقية أن خطاب المقاومة، حين يُختزل في إنكار دائم، يفقد جوهره الإنساني. المقاومة في معناها التاريخي فعل تحرري يهدف إلى حماية المجتمع وتمكينه، لا تحويله إلى رهينة انتظار طويل. حين تنفصل القيادة عن المجتمع، ويُختزل الناس في دور الضحية الصامتة، يصبح الخطاب مهما بدا راديكالياً فاقداً لمعناه الأخلاقي.
في هذا المقال لا نسعى لمحاكمة النوايا، بل لتفكيك البنية. تقرير حماس عن طوفان الأقصى ليس وثيقة مراجعة، بل وثيقة إنكار متقدم. الإنكار هنا ليس ضعفاً عابراً، بل شرط بقاء لقيادة مأزومة. غير أن التاريخ يعلمنا أن الإنكار لا ينقذ القضايا المأساوية، بل يضاعف كلفتها. الخروج من الكارثة لا يبدأ بالصمود الخطابي، بل بالاعتراف، لأن من دون الاعتراف لا مراجعة، ومن دون المراجعة لا خلاص، لا لغزة، ولا لأي مشروع يدعي الدفاع عن الإنسان…